موسوعة أسباب النزول
أسباب نزول سورة الفاتحة:
(1) عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِخَدِيجَةَ "إِنِّي إِذَا خَلَوتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً وَقَدْ وَاللهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا" فَقَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ مَا كَانَ اللهُ لِيَفْعَلَ بِكَ فو الله إنك لتؤدّي الأمانة، وتصل الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثَمَّ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ حَدِيثَهُ لَهُ، وَقَالَتْ: يَا عَتِيقُ اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى وَرَقَةَ، فَقَالَ: "وَمَنْ أَخْبَرَكَ؟" قَالَ: خَدِيجَةُ، فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ، فَقَصَّا عَلَيْهِ، فَقَالَ: "إِذَا خَلَوتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ"، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي، فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ قُلْ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ • الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1، 2]. حَتَّى بَلَغَ. {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: أَبْشِرْ، ثُمَّ أَبْشِرْ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى، وَأَنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَل1ٌ(1).
الدراسة:
هذه الآثار التي ذكرها الواحدي وغيره سواء فى سبب نزول السورة أو بعض آياتها لا تدخل في أسباب النزول، فإنها تدخل في أحوال النزول، وكلها ضعيفة غير صحيحة، فنخلص من هذا أن سورة الفاتحة ليس لها ولآياتها سبب نزول والله أعلم.
بناء على الآثار السابقة فقد اختلف العلماء في أول ما نزل من القرآن على أربعة أقوال:
القول الأول:
جماهير أهل العلم(2) على أن أول ما نزل هو قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ • خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ • اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ • الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ • عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق 1- 5]،
وهذا أصح الأقوال، ويَستنِد أصحاب هذا القول إلى ما رواه الشيخان(3) وغيرهما عن عائشة قالت: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الِلَّهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهَا فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ ﷺ: فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي الثَّانِيةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حَتَّى بَلَغَ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ الِلَّهِ ﷺ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ... " الْحَدِيثَ.
القول الثاني:
وهذا القول مروي عن جابر بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف(4) أن أول ما نزل هو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ • قُمْ فَأَنْذِرْ • وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ • وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ • وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1-5]
ويَستنِد أصحاب هذا القول إلى ما رواه الشيخان(5) عن سلمة بن عبد الرحمن قال: سَألتُ جابرَ بن عبد الله: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ قَالَ: ﭐ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قُلْتُ: أَو{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قَالَ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ الِلَّهِ ﷺ: "إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِي فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ -يَعْنِي جِبْرِيلَ- فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَأَمَرَتْهُمْ فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ الله: :{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ • قُمْ فَأَنْذِرْ}.
وأجابَ أصحاب القول الأول عن هذا الحديث بأجوبةٍ:
أحدها:
أَن السؤال كان عن نزول سورةٍ كاملةٍ فَبَيَّنَ أن سورة الْمُدَّثِّر نزلت بكمالها قبل نُزول تمام سورة اقْرَأْ فإنها أول ما نزل منها صدرها.
ثانيها:
أن مُراد جابر بالأولية مَخصوصةٌ بما بعد فترة الوحي لا أوَّليَّةٌ مُطلقةٌ.
ثالثها:
أن المراد أولية مَخصوصةٌ بالأمر بالإنذار وعبر بعضهم عن هذا بقوله أول ما نزل للنبوة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأول ما نزل للرسالة: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}.
رابعها:
أن المراد أول ما نزل بسبب مُتقدِّم وهو ما وقع مِن التدثر الناشئ عن الرعب وأما ﭐ{اقْرَأْ} فنزلت ابتداء بغير سبب مُتقدِّم ذكره ابن حجر(6).
خامسها:
أن جابرًا استخرج ذلك باجتهاده وليس هو مِن روايتِهِ فيُقدَّم عليه ما روته عائشة. قالَهُ الْكَرْمَانِيُّ(7).
وأحْسَنُ هذه الأجوبة الأول والأخير(8).
الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
إن أول ما نزل سورة الفاتحة، وقد عزا هذا القول الزمخشري في «كشافه»(9) إلى أَكثَر الْمُفسِّرين، وقد رد عليه الحافظ ابن حجر قال(10): "والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول، وأما الذي نسبه إلى الأَكْثَر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول، وحجته ما أخرجه البيهقي في الدلائل (11) من طريق يونس بن بُكَيْر عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شُرَحْبِيل أن رسول الله ﷺ قَالَ لخديجة: "إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً فَقَدْ وَالِلَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا "، فَقَالَتْ: مَعَاذَ الِلَّهِ مَا كَانَ الِلَّهُ لِيَفْعَلَ بِكَ فَوَالِلَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ.
فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ حَدِيثَهُ لَهُ وَقَالَتْ: اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ. فَانْطَلَقَا فَقَصَّا عَلَيْهِ فَقَالَ: "إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ! فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأُفُقِ "، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ قُلْﭐ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
حَتَّى بَلَغَ:{وَلَا الضَّالِّينَ} " الحديث.
قال البيهقي -رحمه الله-: "فهذا مُنْقَطِعٌ، فإن كان محفوظًا فيُحتمل أن يكون خبرًا عن نزولها - أي سورة الفاتحة - بعدما نزلت عليه، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، والله أعلم" (12).
الْقَوْلُ الرَّابِعُ:
إن أول ما نزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره قولًا زائدًا.
وأخرج الواحدي بإسناده عن عكرمة والحسن قالَا: أول ما نزل من القرآن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَأَوَّلُ سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}(13).
وأخرج ابن جرير(14) وغيره من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: أول ما نزل جبريل على النبي ﷺ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَعِذْ ثُمَّ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وعندي(15) أن هذا لا يعد قولًا برأسه، فإنّه مِن ضرورة نُزول السورة نُزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق.
ومما تَقدم نَخْلُصُ إلى أن سورة الفاتحة مَع شِرَفِها وقَدرِها ليست أوَّلَ ما نزل مِنَ القرآن الكريم.