نص كلام المفسر
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {الرَّحْمَنِ}[الفاتحة: 1] وهو الرقيق، {الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وهو العاطف على خلقه بالرزق، وهما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر(2) ،(1) كما قال رضي الله عنه: {الرَّحْمَنِ} [الفاتحة: 1]: الفعلان من الرحمة، و{الرَّحِيم} [الفاتحة: 1]: الرفيق الرقيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يضعِّف عليه العذاب.
موضع الاستنباط
إظهار الفرق بين اسمي الله عز وجل (الرحمن، الرحيم)، وبيان أيهما أرق من الآخر في صفة الرحمة.
التفسير
"الرحمن" و "الرحيم": اسمان من أسماء الله تعالى، يدلان على اتصاف الله تعالى بالرحمة، والرحمة: الرقة والتعطف(3) .
الاستنباط
يظهر من خلال الآثار الواردة عن السلف أن بين الاسمين الكريمين فرقًا ما، وأن أحدهما أكثر رحمة وأشد مبالغة في هذه الصفة من الآخر؛ وإن كانوا لم يعينوا أي الاسمين الكريمين أكثر رحمة.
فهل اسم الله "الرحمن" أرق من اسم الله "الرحيم"؟
أو اسم الله "الرحيم" أرق من اسم الله "الرحمن" ؟
أو إن كل واحد من الاسمين الكريمين أرق من الآخر من وجه؟؛ اعتمادًا على ما أثبته السلف بينهما من فروق(4) ؟
الدلالة المستخدمة
دلالة الإشارة الالتزامية(5) .
توضيح موجز لطريقة الاستنباط
1. يلزم من وصف الله عز وجل بـ"الرحيم" بعد وصفه سبحانه وتعالى بـ"الرحمن" مع اتفاق الاسمين في صفة الرحمة؛ أن هناك فرقا ما بين الاسمين(6) ؛ فبناء الكلام على التأسيس أولى من بنائه على التأكيد.
2. وهذا الفرق هو ما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنه بقوله: "أحدهما أرق من الآخر"؛ باستعمال أفعل التفضيل، لكنه لم يذكر على وجه التحديد أي الاسمين أكثر رحمة من الآخر.
3. فيحتمل أن يكون اسم الله "الرحمن" أرق من اسم الله "الرحيم"، وهذا ما ذهب إليه الأكثر، بل قال ابن كثير في تفسيره (7) : "... وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا...". وكونه أرق من جهة أنه:
- مبني على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها، "قال أَبو الحسن: ... ومعناه عند أَهل اللغة: ذو الرحْمةِ التي لا غاية بعدها في الرَّحْمةِ، لأَن فَعْلان بناء من أَبنية المبالغة"(8) .
- عام في المعنى، فالرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر(9) .
4. ويحتمل أن يكون اسم الله "الرحيم" أرق من اسم الله "الرحمن"، من جهة:
- أن وزن فعيل يدل على الصفة الدائمة، وأن وزن فعلان وإن دل على السعة والامتلاء فلا يدل على الدوام؛ وما كان دائما فهو أرق مما كان مؤقتًا.
- أنه خاص بالمؤمنين؛ ورحمة المؤمنين الخاصة بهم تكون بكثرة الثواب والعفو عن الزلات؛ وكون ذلك أرق لأن المرء أحوج إليه من غيره من أنواع الرحمات خصوصًا يوم القيامة، وانتفاع المرء بهذا النوع من الرحمة أكثر من غيره. وهذا المعنى مروي عن الحسن(10) .
5. كما يحتمل أن يكون كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه، فيتبادلان التفضيل دون أن يختص أحدهما بذلك عن الآخر.
قال ابن العربي: "... الرحمن عام في الدنيا والآخرة والمنافع والثواب، والرحيم يختص بالثواب والعفو، فصار الرحمن خاصًا في اللفظ لاختصاصه بالبارئ، وعامًا في المعني، وصار الرحيم عامًا في اللفظ لجواز تسمية غير الله به، وخاصًا في المعني للمؤمنين في العفو والثواب ..." (12) (11) .
تصنيف المعنى المستنبط
علم العقيدة، باب الأسماء والصفات.
علة الاستنباط
• انطلاقًا من قاعدة التأسيس أولى من التأكيد(13) .
• انطلاقًا من قاعدة أن الزيادة في المبنى تستلزم الزيادة في المعنى(14) .
• انطلاقًا من أن لكل وزن من أوزان العربية معنى يخصه.
• إيمانا بأن تعدد أسماء الله عز وجل لتعدد جوانب كماله وجلاله سبحانه وتعالى فيستلزم ذلك اختصاص كل اسم من أسمائه بمعنى لا يشركه فيه غيره.
• ما ورد من آيات قرآنية ظاهرها التفرقة بين الرحمن، والرحيم. كقول الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
توظيف المعلومة
• تعميق الإيمان بالله سبحانه عن طريق التعرف على معاني أسمائه الحسنى، والتعرض لآثار تلك الأسماء بعبادته ودعائه بها.
• توثيق عظمة الله سبحانه في قلوب المسلمين بتعداد جوانب كماله وجلاله.
• تدريب المسلمين على تدبر كتاب الله عز وجل والبحث عن لطائف معانيه.
(1) قال أبو العباس السمين الحلبي في الدر المصون (1/ 31): "... وقال ابن عباس رضي الله عنه: "وهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي: أكثر رحمة". قال الخطابي: وهو مشكل؛ لأن الرقة لا مدخل لها في صفاته. وقال الحسين بن الفضل: "هذا وهم من الراوي، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر والرفق من صفاته"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف"، ويؤيده الحديث، وأما الرحيم: فالرفيق بالمؤمنين خاصة. انتهى كلامه رحمه الله تعالى، والتحقيق أن هذا المحظور منتفٍ بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، قال العلامة المفسر شهاب الدين الألوسي في روح المعاني (1/ 62، 63): "كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته، ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين، وأين التراب من رب الأرباب". قال محمد بن صالح بن عثيمين في شرح العقيدة السفارينية (1/ 185): "... والعجب أن من يدعون العقل يقولون إن العقل يدل على امتناع ثبوت الرحمة لله عز وجل، وإن الله لا يوصف بالرحمة عقلاً، الرحمة تدل على الرقة واللين، والرقة واللين ضعف، والله عز وجل منزه عن الضعف، وهذا الكلام موهم، ولكن نقول: هذا الذي ادعيته في الرحمة إنما هو إن صح أنه ملازم للرحمة في رحمة المخلوق، أما الخالق فهو يرحم مع كمال سلطانه وعزته وقوته، على أننا لا نسلم لك أن الرحمة تقتضي الرقة واللين والضعف، فها هو الملك ذو السلطان العظيم، في سلطانه المناسب للبشر من أقوى الناس ويكون من أرحم الناس، وهذا يمكن؛ فلا تلازم بين الرحمة والضعف، فدعواك أن الرحمة تقتضي الرقة واللين والضعف دعوى مجردة لا دليل عليها، ثم على فرض أن يكون عليها دليل فهي بالنسبة للمخلوق ...".
(2) ورد هذا أيضًا عن خالد بن صفوان، ومقاتل بن سليمان. كما فرق بينهما الضحاك بن مزاحم بالعموم والخصوص.
(3) الصحاح في اللغة (1/ 247)، ولسان العرب (12/ 230).
(4) تنـبـيـه مـهـم: - مِنْ العلماء مَنْ قَالَ: إن الرحمن والرحيم بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِثْلَ نَدْمَانٍ وَنَدِيمٍ، وَمَعْنَاهُمَا ذُو الرَّحْمَةِ، وَذِكْرُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ تَطْمِيعًا لِقُلُوبِ الرَّاغِبِينَ. جاء في تفسير القاسمي محاسن التأويل (1/ 225): "قال الجوهري: الرَّحْمن والرَّحيم اسمان مشتقان من الرَّحْمة، ونظيرهما في اللغة نَديمٌ ونَدْمان، وهما بمعنى (أي: مترادفين بمعنى واحد يحل أحدهما محل الآخر)، ويجوز تكرير الاسمين إِذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد كما يقال فلان جادٌّ مُجِدٌّ ..."، وانظر الصحاح في اللغة (1/ 247)، والدر المصون (1/ 32). - وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وإن تعددت وجوه التفريق. (وهذا الاستنباط مبناه على القول بالتفريق بينهما).
(5) دلالة الإشارة: هي دلالة اللفظ على معنى غير مقصود بسياق الكلام، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق له الكلام، مثل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر8]، قالوا: هذه الآية تدل بطريق الإشارة على أن الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين يملكونها؛ لأن الله سماهم فقراء مع أن أموالهم تحت أيدي الكفار. انظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ص: 388).
(6) باستقراء كلام العلماء اتضح أن الفرق بين الاسمين الكريمين (الرحمن، الرحيم) على وجهين: - أولهما: في الدلالة الوصفية لكلا الاسمين الكريمين: ونقصد بالدلالة الوصفية؛ كون الاسم يدل على صفة ذاتية أو صفة فعلية. ومما يدل على ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {الرَّحْمَنِ} [الفاتحة: 1]: الفعلان من الرحمة، و{الرَّحِيم} [الفاتحة: 1]: الرفيق الرقيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يضعِّف عليه العذاب. انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 23). - والثاني: في المتعلق الخاص لكلا الاسمين الكريمين: ونقصد بالمتعلق ظهور أثر الاسم في الخلق والأمر. ومما يدل على ذلك ما ورد عن الضحاك بن مزاحم -رحمه الله- قال: {الرَّحْمَنِ} [الفاتحة: 1] لجميع الخلق، و{الرَّحِيم} [الفاتحة: 1] بالمؤمنين خاصة. انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 24).
(7) تفسير ابن كثير، ت: سلامة (1/ 124).
(8) لسان العرب (12/ 231).
(9) قال ابن كثير في تفسيره، ت: سلامة (1/ 126): "... قال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي، حدثنا عثمان بن زفر، سمعت العرزمي يقول: الرحمن الرحيم، قال: الرحمن لجميع الخلق، الرحيم، قال: بالمؤمنين. قالوا: ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59]. وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؛ فذكر الاستواء باسمه "الرحمن"؛ ليعم جميع خلقه برحمته ...".
(10) انظر: الأسنى في شرح الأسماء الحسنى للإسنوي (1/ 75).
(11) انظر: الأسنى في شرح الأسماء الحسنى للإسنوي (1/ 75).
(12) ... وذهب بعضهم إلى أنهما مختلفان، ثم اختلف هؤلاء أيضًا: فمنهم من قال: الرحمن أبلغ؛ ولذلك لا يطلق على غير الباري تعالى، واختاره الزمخشري، وجعله من باب غضبان وسكران للممتلئ غضبًا وسكرًا، ولذلك يقال: "رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة فقط"، قال الزمخشري: "فكان القياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ كما يقال: شجاع باسل، ولا يقال: باسل شجاع". ثم أجاب بأنه أردف "الرحمن" الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بـ"الرحيم"؛ ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف". ومنهم من عكس فجعل الرحيم أبلغ؛ ويؤيده رواية من قال: "رحيم الدنيا ورحمان الآخرة "؛لأنه في الدنيا يرحم المؤمن والكافر، وفي الآخرة لا يرحم إلا المؤمن. لكن الصحيح أن الرحمن أبلغ، وأما هذه الرواية فليس فيها دليل، بل هي دالة على أن الرحمن أبلغ، وذلك لأن القيامة فيها الرحمة أكثر بأضعاف، وأثرها فيها أظهر؛ على ما يروى أنه خبأ لعباده تسعا وتسعين رحمة ليوم القيامة. والظاهر أن جهة المبالغة فيهما مختلفة: فمبالغة "فعلان" من حيث "الامتلاء والغلبة"، ومبالغة فعيل من حيث "التكرار والوقوع بمحال الرحمة". وقال أبو عبيدة: "وبناء فعلان ليس كبناء فعيل؛ فإن بناء "فعلان" لا يقع إلا على مبالغة الفعل؛ نحو: رجل غضبان للممتلئ غضبًا، و"فعيل" يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال: فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً ... فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ فالرحمن خاص الاسم عام الفعل، والرحيم عام الاسم خاص الفعل، ولذلك لا يتعدى فعلان ويتعدى فعيل ...). انظر: الدر المصون (1/ 31،32،33).
(13) قال ابن كثير في تفسيره، ت: سلامة (1/ 126): وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به، والتأكيد لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد، وإنما هو من باب النعت بعد النعت.
(14) ينظر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري (1/ 6).